كلمـــة العــــدد

 

 

 

 

لايمكن الإشادةُ بكل من الثورات على حدّ سواء

 

 

 

 

     اجتاحت و تزال الثوراتُ الشعبيَّةُ عددًا من الدول العربية إحدى بعد أخرى، ونجحت في بعضها، وفي بعضهاإلى النجاح والانتصار. ورغم أن الخلفيّات والأماميّات والحقائق النابعة من أرضيّة الواقع تُؤَكِّد بما لايدع مجالاً للشكّ أنّ معظم هذه الثورات صادرةٌ عن الوطنيّة البريئة، وأنها تهدف إلى الإصلاح الإيجابي البنّاء وإزالة الدكتاتوريّات بكلّ ما كانت تحمل من مساوئ رهيبة خَرَّبت البلاد وأَذَلَّت العباد، وأنّها تفجرت بعفويّة على أيدي الشعوب التي عانت طويلاً من قبل أنظمة دكتاتوريّة دمويّة البطشَ والكبتَ، والقهر والعنتَ، والسجونَ والمعتقلاتِ، والتكميمَ والحرمانَ من حريّة التعبير عن الرأي؛ وملاحقة الدين ورموزه وشعاراته؛ رغم ذلك لايزال كثير من الناس يشكّون في مصداقية هذه الثورات، ويعتقدون أنها تقف وراءها أيد أجنبيّة، تحركها من وراء الستار، فلا يجوز التكهن بإيجابيتها، وإنما الأجدرُ هو التوقّف والانتظار حتى تُسْفِر الأيام عن الحمار أو الفرس الذي تمتطيه!.

     نعم، لاشكّ أنّ الاحتجاجات في بعض البلدان العربية كالبحرين وغيرها، امتطتِ الطائفيّةَ، فأفْقَدَتْها مصداقيّتَها، وأَفْرغَتْها من معنويّتها الإيجابيّة، وقسّمت الشعبَ، وصَنَّفَتْها بين طوائف وفئات، أَدَّتْ إلى البلبلة والاضطراب، مما يُهَدِّد سلامةَ البلاد و وحدَتها، ولايجوز أن يُشَادَ بهذا الموقف.

     ولكنّ التدخّل الخارجيّ الأجنبيّ الغربيّ الأمريكيّ العسكريّ السافر في بعض البلدان، مثل ليبيا، شَكَّلَ هاجسًا خطيرًا، وخطرًا كبيرًا على اختطاف الثورات، وتحويلها إلى جهة سلبيّة لاتخدم إلاّ المصالحَ الغربيّةَ الأمريكيّةَ التي على رأسها نهبُ الثروات العربيّة واستعمارُ البلاد واستعبادُ العباد.

     كما أنّ هناك هواجسَ حتميّةً من التدخّل الغربي الأمريكيّ غير المكشوف، والانحراف بالثورة الشعبيّة في البلاد التي قطعت فيها بعضَ الطريق   عن خطّها السويّ إلى خطّ آخر لاينفع إلا الغرب وأمريكا والصهاينة؛ لأن الأعداء مُتَيَقِّظُون دائمًا لايَفْتُرُون عن إحكام التخطيط ومحاولات التخريب والإفساد، ومن طبيعتنا نحن المسلمين من سوء الحظّ، التراخي والتكاسل والسبات بعد فترة من الوقت. والخطرُ مُتَوَقَّع من قبل الأذناب الذين لايزالون يُبَيِّتُون الخطةَ، ويُحَاوِلُون الالتفافَ على الثورة ودماءِ الشهداء وجهودِ الشباب الثائر البريء المخلص والملايين من الشعب الخارج على الطواغيث والدكتاتوريين.

     الأنظمةُ الفاسدةُ التي حَكَمَتْ هذه البلادَ عَبْرَ هذه السنين الطويلة أَفْسَدَتْ عقول وقلوبَ كثير من المواطنين بأدواتها المفسدة، ومناهج تعليمها العلمانيّة، وأساليبها المُخَدِّرة، وتعليماتها المجنونة، وإعطائها الحريةَ الزائدةَ لمظاهر الحضارة الغربيّة التي فَعَلَتْ فعلَها، وبَيَّضَتْ وَفَرَّخَت، وعَشَّشَتْ في عقول كثير من الأفراد، الذين تَشَرَّبُوها وتخرّجوا فيها، وعاشوا عليها وصدروا عنها؛ فلا يجوز استعجالُ النتائج، والتهرُّعُ إلى قطف الثمر، قبل أن يصلب عودُ الشجر، ويَتَقَوَّىٰ ساقه، وتَتَعَزَّزَ فروعُه، وتَخْضَرَّ أوراقُه، ويصلح للإثمار، ويأتي فصلُه، ويحين أوانُ حصادِ الثمار. ولاسيّما لأن الأفراد الذين تخرجوا في مدرسة الفساد والإفساد، وعددُهم لايُسْتَهَانُ به، مُتَهَيِّئُون وصالحون لقبول وأداء دورِ العمالة إذا نِيْطَ بهم من قبل القوى الغربية الأمريكية الاستعماريّة.

     من ثمّ يجب الإصرارُ على المطالب التي أَعْلَنَها الثُوَّارُ، وبتحفّظٍ و رويّةٍ، وإبقاءٍ على وحدةِ الصفِّ وسلامةِ القصد، وحذرٍ بالغٍ من اختراق الوحدة من قبل العُمَلاءِ المُتَسَتِّرين، ولا سيّما لأن البلادَ التي نجحت فيها الثورةُ الشعبيّةُ بعضَ النجاح وعلى رأسها تونس ومصر لاتزال تعيش مرحلة انتقاليَّةً بطيئةَ السير جدًّا والناسُ يَتَوَجَّسُون أن يبقى الوضع الانتقاليّ قائمًا لمدة طويلة، فمصرُ العزيزة لاتزال محكومةً بالجيش الذي يُمثِّل في معظم تصرفاته «العهدَ المُبَارَكِي» الدكتاتوري، فأوامرُ القمع والكبت لاتزال جاريةً، ولايزال الشعب يرى استدعاءً لمُعْتَصِمِين، واختفاءً لبعض الشباب، وإجراءَ تحقيقات مشفوعة بالتعذيب مع عدد منهم، كما أنه لم يتم إعادة المختفين من المتظاهرين. والحالةُ لاتختلف عن ذلك في تونس.

     وكذلك المطالب العاجلة هي الأخرى لم يتمّ تنفيذُها، كان من بينها: إطلاقُ مساجين حريةِ الرأي، وإلغاءُ المحاكم العرفيّة والعسكرية، وإلغاءُ قانون الطوارئ، وإشراكُ بعض كبار القانونين الموثوق بهم في الإشراف على المرحلة المُوَقَّتَة، والقضاءُ على ما يمكن القضاءُ عليه من مظاهر وآثار العهد الماضي، كمحاكمة بعض رموزه واسترداد وحجز ومصادرة ماهو مُتَاحٌ مما نهبوه من أموال الشعب.

     وينبغي أن يُمَارِس الشعبُ الضغطَ المُوَحَّد على تطهير الأجهزة وخصوصًا القمعيّة من كل رموز العهد البائد ومناصبه ورتبه ذات الامتيازات، ومُحَاسَبَة ومُؤَاخَذَة كلّ من اشتهر عنه سوءُ التصرف والمعاملة مع المواطنين واستعمال الوسائل القمعيّة واللاأخلاقيّة من ضرب وشتم وتعذيب وتحرش وارتشاء وسلب، والتعامل مع القَتَلَة ومُجْرِمِي التعذيب بما يستحقون، وحجزهم دونما تأخير، وعزلهم عن المجتمع.

     ولابدّ من تكوين مجلس أو هيئة شعبيّة للرقابة في المرحلة المُوَقَّتَة تتكوّن من شخصيّات حسب مقاييس مُحَدَّدَة كرُؤَسَاء الهيئات القضائية العليا الحاليين والسابقين من الأحياء، ورؤساء الجامعات الحاليين والسابقين، ورؤساء النقابات والأحزاب والجمعيّات، ومُؤَسَّسَات المجتمع المدني، ورؤساء الوزارات والمجالس الشعبية السابقين، وقادة الأسلحة السابقين، وكذلك بعض الشخصيات المشهود لها بالوطنية والنزاهة.

*  *  *

     أَخْوَفُ ما يخاف على الثورات الشعبيّة التي تشهدها البلاد العربيّة هو تَرَاكُمُ الدواعي والعوامل التي دفعت إلى الثورة؛ لأن الوضع مُعَقَّد في بعض البلاد؛ حيثُ إنّ التدخّل الغربي الأمريكي الصهيوني الصليبي، والتدخلَ الطائفيّ يُشَكِّلاَن هاجسًا كبيرًا في عدد منها، كما أنّ أذناب الغرب وخَدَمَة المصالح الأمريكية من العلمانيين المتحررين خطرٌ كبير على المصالح الشعبيّة الوطنية؛ لأنهم لم يكونوا ولن يكونوا نُزَهَاء في الاستجابة للمصالح الوطنيّة. والغربُ وأمريكا وإسرائيلُ عاملةٌ جاهدةً على استغلالِ الوضع، وتوتّرِ الموقف، والتناحرِ الحاصل بين الشعوب والحكام الفاسدين، الذين في خلفائهم وأذنابهم والمُقَرَّبِين منهم سيجد ثالوثُ الغرب وأمريكا وإسرائيل عددًا مطلوبًا من «قرضاي» الأفغاني، و«المالكي» العراقي، و«زرداري» و«مشرف» الباكستانيين وغيرهم.

     تسارعُ مجلسِ الأمن التابع للأمم المُتَّحِدَة التي تَأَسَّسَتْ في الواقع لتحقيق مصالح الغرب وإسرائيل وأمريكا، إلى اتخاذ قرارٍ للهجوم الجويّ على «ليبيا»بحجة حماية الشعب الليبي من اعتداءات جيش «القذافي» الرئيس الليبي الذي ثار شعبُه ضدَّه على شاكلة الشعوب العربية العديدة وكثير من المُعَلِّقِين يتأكدون أنّ الثورة الشعبية في «ليبيا» كان قد بدأت على إثارة وتحريض وتشجيع من الغرب وأمريكا تسارعُه إلى ذلك يُؤَكِّد ما يُصَرِّحُ به المُحَلِّلُون الصُحُفِيُّون والسياسيُّون في العالم ولاسيّما المسلمون منهم بأنّ ذلك كان مُبَيَّتًا من الغرب للاستيلاء على «ليبيا» على غرار الاستيلاء على العراق وأفغانستان وباكستان؛ لأن ليبيا لديها ثروة بتروليّة ذات نوعيّة ممتازة جدًّا لاتُوْجَد حتى لدى المملكة العربية السعودية والعراق والكويت وغيرها من البلاد العربيّة النفطيّة التي استعمارُ الغرب وأمريكا لها واضحٌ وضوحَ الصبح لذي عينين؛ لأنّ هذه البلاد النفطيّة غيرُ مختارة فيما يتعلق بالإنتاج والتكرير والتسويق والتسعير والتصدير؛ بل هي مُسْتَعْبَدَةٌ في ذلك لأمريكا والغرب، ومُضْطَرَّةٌ لتطبيق أوامرهما حرفيًّا.

*  *  *

     من هنا لايمكن الاشادةُ بكلّ من الثورات الشعبيّة على حد سواء؛ لأنّها تختلف بعضُها عن بعض في الأهداف والدواعي، كما أنّها اخترق بعضَها تدخلٌ غربيٌّ أمريكيٌّ في وسط الطريق أو في نهايته، أو أنّها يُخَافُ عليها الاختطافُ من قبل الغرب وأمريكا؛ بل فعلاً هناك مساعٍ على أرض الواقع تُبْذَل باستمرار ومُكَثَّفةً لتوجيهها لصالح الثالوث الأمريكي الغربي الإسرائيليّ.

     كما أنّ هذا الثالوث الخبيث يُحَرِّض في بعض الدول العربيّة الطوائفَ لتفجير الثورة ضدّ الحكومات، فثارت أو هي في طريقها إلى الثوران في بعض الدول، طائفيَّةً فِئَوِيَّةً تهدف إلى تحقيق أغراض طائفيّة مشبوهة، والثالوثُ الخبيثُ قد دَبَّرَ مسبقًا للصيد في الماء العكر في هذه البلاد من خلال الثورات الطائفيّة، وعلى رأس أهدافه التي تبنّاها هو إضعافُ الشريحة الإسلاميّة التي تُمَثِّل الإسلامَ الصحيحَ الذي يُؤَيِّدُه كتابُ الله وسنةُ رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنّ هذا الثالوثَ قد دَرَسَ جيِّدًا وعَلِمَ على نحو مُؤَكَّد أن أهلَ السنة من المسلمين الذين يُشَكِّلُون الأغلبيّة الساحِقةَ في العالم، لايمكن إلحاق الأضرار بالإسلام من قِبَلِهم في الأغلب بالسهولة التي يمكن بها الحاقُها به من قِبَلِ طائفة الشيعة التي إنما نَشَأَتْ عن مؤامرة اليهود ألدّ أعداء الإسلام بنصّ كتاب الله عزّ وجلّ.

     فالشيعةُ هم سرطانٌ في الجسم الإسلاميّ، أُتِيَ الإسلام من قِبَلِهِم مرات كثيرةً في تأريخه الطويل، وهم في الأصل مُؤَيَّدُون من قِبَلِ كلِّ القوى المعارضة للإسلام، والدليلُ الأحدثُ على ذلك أن ثالوثَ أمريكا وإسرائيل والغرب، لم يستهدف المفاعلاتِ النووية الإيرانيّة رغم إطلاق صيحات كثيرة فارغة ضدَّه، وهذا الثالوثُ هو الذي أشار على صدام حسين غَفَرَ الله زلاّتِه وأدخله فسيح جنّاتِه بالهجوم على الكويت للتفريق بين أهل السنة، وإضعاف الدول العربية، وتفريق كلمة العرب والمسلمين، واستغلال ذلك للتدخل العسكري السافر في العالم العربي والإسلامي، ثم هَجَمَ تَوًّا على العراق وخَرَّبَه عن آخره، وَأَذَلَّ العربَ والمسلمين بأساليبَ أشدَّ إهانةً وإذلالاً، وأزال صدام حسين عن المسرح، وغَدَّبَه حيًّا واستخف به، وأعدمه شنقًا يوم عيد الأضحى بأسلوب كله أَثَارَ غيرةَ الأمة المسلمة على كلِّ اختلافها مع موقف صدام حسين في الحكم والسلطة، وأقام في العراق حكومةَ الشيعة. وهو الثالوث الخبيث اليوم بسبيل إقامة حكومات شيعية أو تعزيز قوي شيعيّة في كل من البحرين واليمن ولبنان وغيرها حتى تعود حكوماتُ أهلِ السنة في الدول العربية مُحَاطَةً مُحَاصَرَةً بحكومات شيعيّة، وتشتد الخلافاتُ بين السنة والشيعة ويضعف المسلمون، ويَقْوَىٰ الصهاينة والصليبيون، ويَسْهُلَ ابتلاعُ ثرواتهم المسلمين واستعبادُ نفوسهم لأمد بعيد.

     فيجب أن نكون على حذر كامل في هذه المرحلة الحرجةَ، ونُفَوِّت الفرصةَ على الأعداء. والواقع أننا مُمْتَحَنُون اليوم في ذكائنا الإسلامي وغيرتنا الإيمانية ونخوتنا العربية وفراستنا الدينية. والنجاحُ في الامتحان هو الذي يضمن انتصارنا من خلال نجاحنا في تفويت كل فرصة على الأعداء للاستغلال والاستعمار والاستعباد والتسخير. وصدق الله العظيم: «إِنْ تَنْصُروا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» (محمد/7) .

 

(تحريرًا في الساعة 10:30  من صباح يوم الأحد: 21/ربيع الثاني 1432هـ = 27/مارس2011م)

نور عالم خليل الأميني

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادي الثانية 1432هـ = مايو 2011م ، العدد : 6 ، السنة : 35